السبت، 4 يوليو 2020

خطبة عيد الأضحى ل محمد بن عبد الوهاب


خطبة عيد النحر


الله أكبر (تسعا نسقا) . الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر كلما أحرموا من الميقات، وكلما لبى الملبون وزيد في الحسنات. الله أكبر كلما دخلوا فجاج مكة آمنين، وكلما طافوا بالبيت وسعوا بين الصف
ا والمروة ذاكرين مكبرين. الله أكبر كلما وقفوا بعرفة خاضعين مخبتين منيبين مهللين.

الله أكبر كلما وقفوا بالمشعر الحرام طالبين راغبين. الله أكبر كلما رموا الجمرات مكبرين. محلقين رؤوسهم ومقصرين. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

الحمد لله الذي خلق آدم بيده من صلصال كالفخار، وأسجد له ملائكته المقربين الأطهار، فسجدوا إلا إبليس أبى فباء باللعنة والصغار. مسح تعالى ظهر آدم بيده فاستخرج ذريته كالذر ونفذ فيهم الأقدار. قبض قبضة وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي. وقبض قبضة فقال: هؤلاء ولا أبالي إلى النار. لا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي، بل هو النافع الضار. أحمده سبحانه على نعمه الغزار.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيدا مقتنى ليوم الحاجة والافتقار، متظاهرا عليه اللسان والجنان بالسر والجهار، مشهودا به لربنا كما شهد به لنفسه وشهدت به ملائكته وأولو العلم من خلقه، لا إله إلا هو العزيز الغفار.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صلى ونحر، وحج واعتمر، وجاهد المنافقين والكفار. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الأخيار، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، والتمسوا من الأعمال ما يحب ويرضى. واعلموا أن يومكم هذا يوم فضيل، وعيد جليل، رفع الله قدره وأظهر، سماه يوم الحج الأكبر. وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم فقال في خطبته: "أيها الناس اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم ") . وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". وفي هذا اليوم يجتمع الحاج بمنى يستكملون مناسك الحج، ويتقربون إلى الله بالعج والثج، يحيون سنة

أبيهم إبراهيم بإهراق الدماء في هذا اليوم العظيم، فإن الله ابتلاه بأن أمره يذبح ولده، وفلذة كبده، ليسلم قلبه لله، ولا يكون فيه شركة لسواه، فإن العباد لذلك خلقوا، وبه أمروا؛ فامتثل أمر ربه طائعا، وخرج بابنه مسارعا.

وقال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، لا متوقفا ولا متفكرا. فاستسلما جميعا للقضاء المحتوم، وسلما أمرهما للحي القيوم. فلما تله للجبين، وأهوى إلى حلقه بالسكين، أدركته رحمة أرحم الراحمين، ونودي: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}. وأتي بكبش من الجنة فذبحه فداء ولده. فأحيا نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم هذه السنة وعظمها، فأهدى في حجته مائة بدنة، وضحى في المدينة بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن محمد وآل محمد، والآخر عن أمة محمد. فبادروا رحمكم الله إلى إحياء سنن المصطفين الأخيار، ولا تكونوا ممن بخل وآثر كنْز الدرهم والدينار، على طاعة الملك الغفار. فأكثر العلماء على أنها مستحبة، وبعضهم يرى الوجوب مع اليسار. وأفضلها أكرمها وأسمنها وأغلاها، وتجزي الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبدنة عن سبع شياه.

والمجزي من الضأن ما تم له ستة أشهر، ومن الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن المعز ما تم له سنة. ولا تجزي العوراء البين عورها، ولا العرجاء البين ظلعها، ولا المريضة البين مرضها، ولا الهزيلة التي لا تنقي، ولا العضباء التي قطع أكثر أذنها أو قرنها. وتنحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى يطعنها في وهدتها قائلا: بسم الله الله أكبر، اللهم إن هذا منك ولك. ويتلفظ بالنية فيقول عن فلان. وتذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر. والسنة جعل الأضاحي أثلاثا: ثلثا لأهله، وثلثا لصديقه، وثلثا للفقراء. ووقت الذبح من انقضاء صلاة العيد إلى آخر اليوم الثالث من أيام التشريق. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَرضي الله عنه لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

الخطبة الأخيرة


الحمد لله سيد الجمع والأعياد، رافع السموات بغير عمد ترونها، وباسط الأرض ومرسيها بالأطواد. أحمده سبحانه على نعمه التي لا يحصى لها تعداد. وأشكره. وبالشكر تحلو النعم وتزداد. وأشهد أن لا إله إلا الله

وحده لا شريك له، شهادة أعدها ليوم التناد.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى سبيل الرشاد، الداعي إلى الله على بصيرة حتى دانت لدعوته العباد. اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأمجاد، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه ليس السعيد من أدرك العيد، ولبس الجديد، وركب الخيل المسومة، وخدمته العبيد. إنما السعيد من اتقى الله فيما يبدي ويعيد، وفاز بجنة نعيمها لا يفنى ولا يبيد، ونجا من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم وشرابهم الصديد، ولباسهم القطران والحديد. واتقوا الله عباد الله بامتثال أمره الأكيد، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فهذا شأن العبيد.

واعلموا أن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد النبي الهاشمي الأوفى. وارض اللهم عن الأربعة الخلفا، والسادة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أهل الصدق والوفاء، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان ولطريقتهم اقتفى، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم أقم علم الجهاد، واقمع سبيل أهل الشرك والريب والفساد، وانشر رحمتك على هؤلاء العباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد. عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون. وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إن الله يعلم ما تفعلون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


الثلاثاء، 30 يونيو 2020

خطبة ابن سعدي في وجوب العدل في كل شيء

خطبة في وجوب العدل في كل شيء


الحمد لله الذي أوجب العدل في كل الأحوال، وحرم الظلم في الدماء والأعراض والحقوق والأموال، وأشهد أن لا إله إلا كامل الأوصاف وواسع النوال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فاق جميع العالمين في العدل والفضل والإفضال، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وأشرف آل.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أن مدار التقوى على القيام بالعدل في حقوق الله وحقوق العباد، فإن التوحيد غاية العدل والشرك أعظم الظلم وأشنع الفساد، إذا كان الله هو الذي خلقك ورزقك وعافاك وأعطاك فمن العدل الواجب أن يكون معبودك، وإليه ترجع في رغباك ورهباك، فمن أظلم ممن سوى المخلوق الناقص الفقير بالرب الغني الكامل القدير. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] الآية. قد أمر الله ورسوله بالعدل بين الناس في جميع الحقوق، ونهى عن الظلم والجور والفسوق. بالعدل تعمر الأسباب الدينية والدنيوية، ويتم التعاون على المصالح الكلية والجزئية، والعدل واجب في الولايات كلها والمعاملات، وهو أن تؤدي ما عليك كاملا كما تطلبه تاما من كل الجهات. فمتى عدل الرعاة والمعاملون في المعاملات صلحت الأمور واتسعت دائرة الأسباب والتجارات، ومتى رفع من المعاملة روح العدل والأمانة وحل محله البخس والغش والتطفيف والخيانة، فمنع الإنسان ما عليه واستوفى ماله. {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ - الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ - وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ - أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1 - 5] ويل لهم مما يترتب على البخس والتطفيف من العقوبات، وما يرفع بذلك من الخيرات والبركات، وما يتوقف بسببه كثير من المعاملات النافعات، كل معاملة فقدت العدل فهي معاملة ضارة، قال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من غشنا». فالغش والمعاملات الجائرة ليست من الدين، وصاحبها متعرض لعقوبة رب العالمين. والعدل يكون في الحقوق الزوجية، فعلى كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف، فمتى قام كل منهما بما عليه التأمت الزوجية، وتم لهما حياة سعيدة طيبة، وحصلت الراحة وحلت البركة، ونشأت العائلة نشأة حميدة، ومتى لم يقم كل منهما بالحق الذي، عليه، تكدرت الحياة، وتنغصت اللذات، وطال الخصام وتعذر الوئام، قال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. فالإمام راع على الناس ومسئول عن رعيته. والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته. والمرأة راعية على بيت زوجها هي مسئولة عن رعيتها، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» فذكر صلى الله عليه وسلم الولايات كلها كبارها وصغارها، وأخبر أن من تولى ولاية فهو مسئول عنها، وهل عدل فيها وسلك المأمور به فله الثواب، أو ظلم فيها وجار فعليه العقاب. العدل تقوم به الولايات، وتصلح به الأفراد والجماعات، وتمشي به الأحوال في كل الأوقات. سلك الله بنا وبكم سبيل العدل والإنصاف، وأعاذنا وإياكم من الجور والأعتساف، وبارك لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في الحث على تدبر القرآن الكريم

خطبة في الحث على تدبر القرآن الكريم


الحمد لله الذي قال لنبيه المصطفى، منوها بعظمة القرآن وما فيه من الرحمة والنور والهدى: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى - إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى - تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا - الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى - لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى - وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 1 - 8] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المولى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المختار من الخليقة المجتبى، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأخيار النجبا.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بمراعات العلم وتحقيق التقى، وتدبروا هذا الكتاب العزيز فإنه مبارك، فيه الرحمة والشفا، فهو الهدى الذي يهدي من الضلالة، وينير الحقائق الصحيحة في ظلم الجهالة، يهدي إلى معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويبين الطريق الموصل إلى فضله وأفضاله، ويوضح الأحكام كلها في العبادات والمعاملات، ويبين الحقوق في جميع التعلقات، وهو الشفاء من الأمراض البدنية والقلبية، وبه العصمة والنجاة في الأمور الدينية والدنيوية، وهو المزيل لأمراض الشبهات وأمراض الشهوات، بما فيه من البراهين القاطعة، والمواعظ المؤثرة والتذكيرات، وهو الموصل إلى المعارف الجليلة والعلم واليقين الكاشف للحقائق كلها بالتوضيح الكامل والبراهين، فيه نبأ الأولين والآخرين، وفيه الحكم العادل بين الخلق أجمعين، وفيه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ما تطمئن به القلوب، وفيه التفاصيل العظيمة النافعة الموصلة إلى كل مطلوب، كتاب عظيم هيمن على الكتب السابقة حتى أحاط بها وحواها، وحكم بالحق في كل ما تنازعت فيه الأمم، أولاها وأخراها، أعيا ببلاغته وحسن نظمه جميع البلغاء، وحير بحسن أسلوبه وما كشفه من غيوبه أفئدة العقلاء، وأصلح بهدايته العقائد والأخلاق والأعمال، وهدى للتي هي أقوم وأصلح وأنفع، في كل الأحوال، كتاب حفظه الله من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حميد رحيم رحمان، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه فقد هدي إلى صراط مستقيم. اللهم اجعل القرآن العظيم لقلوبنا ضياء، ولأسقامنا دواء، ولذنوبنا ممحصا، وعن النار مخلصا، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين.

خطبة ابن سعدي في الحث على مؤونة الأقارب وغيرهم

خطبة في الحث على مؤونة الأقارب وغيرهم


الحمد لله الذي كرم بني آدم، وفضلهم على كثير من المخلوقات، ويسر لهم من ألطاف بره وأسباب كرمه ما به ينتفعون ويرتفعون درجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كامل الأسماء والصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من جميع البريات، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه الذين فضلوا الأمة بالعلوم النافعة والأعمال الصالحات.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أجل القربات وأفضل الطاعات القيام بمؤنة البنين والبنات، والإخوان والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وجميع القرابات، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فم امرأتك»، و «من عال جاريتين حتى يغنيهما الله كانتا له حجابا من النار» «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر» «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا، «خير بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت فيه يتيم يساء إليه» فما أعظم توفيق من قام بكفالة أحد من أقاربه العاجزين، وما أولاه بالأجر والثواب والخلف من رب العالمين، فإنه في عبادة وثواب متزايد، كلما أطعمهم وكساهم، وهو في جهاد كلما سعى في الكسب لهم وضمهم إليه وآواهم، وقد يفتح الله له بسببهم طرقا من الخير وأبوابا، وينزل له البركة ويعطيه خلفا عاجلا وأجرا وثوابا، فإنما ينصر الناس ويرزقون بعاجزيهم وضعفائهم، وإنما ترحمون برحمتهم إياهم وكثرة سؤالهم ودعائهم، أما تحبون أن يحسن الله إليكم إذا أحسنتم إليهم؟ أما ترغبون أن يكرمكم مولاكم إذا آويتموهم وتفضلتم عليهم؟ أما تغتنمون أدعيتهم لكم في كل الأحوال؟ أما علمتم أن من فرج عنهم كربة فرج الله عنه يوم القيامة الشدائد والأهوال؟ ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن شرح صدر قريبه المحتاج يسر الله أمره، وغفر له يوم فقره وفاقته. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في مفاتيح الخير والشر

خطبة في مفاتيح الخير والشر


الحمد لله الفتاح العليم، الملك العظيم، الرب الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، البر الرحيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بفعل الخير وترك العصيان، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الخير والشر خزائن ولهذه الخزائن مفاتيح، فطوبى لمن كان مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وويل لمن كان مغلاقا للخير مفتاحا للشر» بهذا الذي ذكر المصطفى توزن الرجال، وبه يعرف أهل النقص من أهل الكمال، فكونوا رحمكم الله مفاتيح للخيرات، مغاليق للشرور والآفات، فمن كان منكم مخلصا لله ناصحا لعباد الله، ساعيا في الخير بحسب إمكانه فذاك مفتاح للخير حائز للسعادة، ومن كان بخلاف ذلك فهو مغلاق للخير، وقد تحققت له الشقاوة، من الناس من إذا اجتمع بهم في مجالسهم حرص على إشغالهم فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ومنهم من يشغلهم بما يضر وما لا يغني، فهذا قد حرمهم الخير وأشقاهم، ومنهم من يسعى في تقريب القلوب وجمع الكلمة والائتلاف، ومنهم من يسعى في إثارة الفتن والشقاق والتنافر والخلاف، ومنهم من يجتهد في قلع ما في قلوبهم من البغضاء، ومنهم من يلهب في قلوبهم الشحناء، ومنهم من يحث على الجود والكرم والسماحة، ومنهم من يدعو إلى البخل والشح والوقاحة، ومنهم من يتنوع في فعل المعروف في بدنه وقوله وماله، ومنهم من لا يعرف المعروف ولو قل، فلا تسأل عن سوء حاله، ومنهم من مجالسه مشغولة بالغيبة والنميمة والوقيعة في الناس، ومنهم من ينزه نفسه عن ذلك وينزه الجلاس، ومنهم من تذكر رؤيته بالله، ويعين العباد في مقاله وحاله على طاعة الله، ويأمرهم بالقيام بالحقوق الواجبة والمسنونة، ومنهم المثبط عن الخير وأحواله غير مأمونة، فتبارك الذي فاوت بين العباد هذا التفاوت العظيم، فهذا كريم على الله وعلى خلقه، وهذا لئيم، وهذا مبارك على من اتصل به، وهذا داع إلى كل خلق ذميم، وهذا مفتاح للبر والتقوى وطرق الخيرات، وهذا مغلاق لها ومفتاح للشرور والآفات، وهذا مأمون على النفوس والأعراض والأموال، وهذا خائن لا يوثق به في حال من الأحوال وهذا قد سلم المسلمون من لسانه ويده وهذا لم يسلم منه أحد وربما سرت أذيته على أهله وولده أجارني الله وإياكم من منكرات الأعمال والأخلاق والأهواء، وعافانا من كل شر قاصر ومتعد ومن البلوى، ورزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في حسن الخلق

خطبة في حسن الخلق


الحمد لله الرؤوف الرحيم، البر الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العظيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى صراط مستقيم، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في كل أمر قويم.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بالقيام بحقوقه وحقوق العباد، وبكمال المتابعة للرسول وقوة الإخلاص للرب الجواد، قال صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»، فعاشروا رحمكم الله الخلق بالخلق الجميل، وبالتواضع لهم في كل كثير وقليل، واعقدوا قلوبكم عقدا جازما على محبة جميع المسلمين والتقرب بذلك إلى رب العالمين، واجتهدوا في تحقيقها ودفع ما ينافيها، واعملوا على كل ما يحققها ويكملها وينميها، واتخذوا المؤمنين إخوانا، وعلى الخير مساعدين وأعوانا، ومتى رأيتم قلوبكم منطوية على خلاف ذلك فبادروا إلى زواله، وسلوا ربكم أن لا يجعل فيها غلا للذين آمنوا تحظوا بنواله، وميزوا في هذه المحبة من لهم في الإسلام مقام جليل، كعلمائهم وولاتهم العادلين وعبادهم، فتمام محبة الله محبة أوليائه، بحسب مقاماتهم وعملهم واجتهادهم، ووطنوا نفوسكم على ما ينالكم من الناس من الأذى، وقابلوه بالإحسان، وتقربوا بذلك إلى الله راجين فضل الكريم المنان، فمن كمال حسن الخلق أن تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحسن الخلق لمن أبغضك وهجرك، فإن الجزاء من جنس العمل، فمن عفي عن عباد الله عفى الله عنه، ومن سامحهم سامحه الله، ومن أغضى معائبهم ومساويهم ستر الله عليه، فاجعل كبير المسلمين بمنزلة أبيك وصغيرهم بمنزلة ابنك ونظيرهم محل أخيك، وتكلم مع كل أحد منهم بما يناسب الحال؛ فمع العلماء بالتعلم، وبالتعليم مع الجهال، ومع الصغار باللطف، ومع الفقراء بالرحمة والعطف، ومع النضراء بالآداب والظرف. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي فيها آداب الشرع في السلام والتحية وغيرها

خطبة فيها آداب الشرع في السلام والتحية وغيرها


الحمد لله الذي جعل الأدب الشرعي عنوان التوفيق، وهدى من شاء من خلقه لأقوم طريق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مبنية على الإخلاص والمحبة والتحقيق، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أخرج الله به المؤمنين من الكربات والظلمات والضيق، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والسوابق والتوفيق.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الآداب الشرعية أفضل الآداب، فاسلكوا سبلها لتحظوا من ربكم بجزيل الثواب، ألا وإن أصل الأدب مراقبة الله في السر والعلانية، والقيام بحقوقه وحقوق خلقه بنية وهمة عالية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه» «إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام» «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه» «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا دلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» واعلموا أن السلام الشرعي بالمشافهة والمكاتبة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فاستبدل به الجهال الذين لا يعرفون قدر الآداب الشرعية ألفاظا استحسنوها وهي غير مرضية، فأين هذه الألفاظ التي لا فائدة فيها أصلا من تحية المسلمين التي تجمع أكمل الدعاء وأنفع الخير والثناء، وليسلم الراكب على الماشي، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، والماشي على الجالس، وإذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل سامعه: يرحمك الله، فإذا قال ذلك فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم، فإن حمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا خير في الجلوس في الطرقات» أي التي لا بيع فيها ولا شراء إلا لمن هدى السبيل، ورد التحية، وغض البصر، وأعان على الحمولة، ولم يؤذ الناس ولم يتتبع عوراتهم ويشتغل بالتفتيش عن أحوالهم، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته وفضحه بين العباد وأظهر للناس عيوبه التي كان يخفيها، ومن تغافل عن عيوب الناس وأمسك لسانه عن تتبع أحوالهم التي لا يحبون إظهارها سلم دينه وعرضه، وألقى الله محبته في قلوب العباد وستر الله عورته، فإن الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في البداءة باليمين

خطبة في البداءة باليمين


الحمد لله الذي فضل بعض المخلوقات على بعض بحكمته الشاملة، وخصص بعضها بأوصاف تميزت بها، فسبحان من اختص بالأوصاف الكاملة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في نعوته وفي أياديه التامة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى ونبيه المقتفى، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه النجبا.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن كمال التقوى وزينتها الاجتهاد في التأدب بالآداب الشرعية والتحقق بالإرشادات النبوية، قالت عائشة - رضي الله عنها-: «كان رسول الله يعجبه التيمن في طهوره وترجله وتنعله، وفي شأنه كله». قال العلماء: ينبغي للعبد إذا تطهر أن يبدأ باليمين من اليدين والرجلين قبل اليسار، وأن يجعل يمناه لأكله وشربه وأخذه وعطائه، فمن سمى الله عند أكله وشربه وتناول أكله وشربه بالأدب باليمين وحمد الله إذا فرغ- نال رضى رب العالمين، أو ناول أحدا شيئا أو تناول منه فليكن ذلك باليمين، ومن صافح غيره صافحه باليمين، ومن أدار على جماعة طعاما أو شرابا أو طيبا أو غيرها بدأ بالأيمن فالأيمن، ولو كان الأيسر فاضلا والأيمن مفضولا، إلا أن يؤثر صاحب الحق غيره في بالتقديم، واحذروا من الأكل والشرب باليسار من غير عذر، فأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، فاحذروا من مشابهة الشيطان في أعماله، وإذا دخل أحدكم المسجد فليقدم رجله اليمنى، ويقول: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، فمن غفر له ورحم وفقه الله لتكميل العبادات، ومن عليه بما يفعل في المسجد من الطاعات، وإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك، ليكون متعلقا رجاؤه بربه في أمور دينه، ودنياه، فإن من سأل ربه وتوكل عليه رزقه من حيث لا يحتسب وكفاه، وإذا لبس لباسا بدأ بالجانب الأيمن، فإن كان جديدا قال: الحمد لله الذي كساني هذا اللباس ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، اللهم كما سترت وجملت ظاهري باللباس فجمل باطني بلباس التقوى، وإذا خلع ذلك بدأ بالجانب الأيسر، وليجعل يده اليسرى لمباشرة النجاسات والأوساخ والأقذار، كالاستنجاء والاستجمار والإستنثار. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]

خطبة ابن سعدي في سنن الفطرة

خطبة في سنن الفطرة


الحمد لله الذي شرع لنا ما يقربنا إليه ويدنينا، ونهج لنا من الطرق ما يكفينا عن غيرها ويغنينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهنا ومليكنا وناصرنا وهادينا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه الله بالهدى ودين الحق شرعة وتوحيدا ودينا، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أفضل الناس أخلاقا وأعمالا وعلما ويقينا.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واشكروه على آلائه الباطنة والظاهرة، وتقربوا إليه بما يحبه ويرضاه من العقائد والأعمال والأخلاق الفاضلة، فقد شرع لكم من فطرة الإسلام ما يطهر الظواهر ويزكي القلوب، ويسر لكم كل سبب تدركون به المطلوب، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ - مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 30 - 31] فهذه الفطرة الباطنة التي عمادها على الإخلاص والإقبال بالقلب عليه، وتمامها بترك الشرك قليله وكثيرة وتحقيق الإنابة إليه، قولوا بألسنتكم وقلوبكم إذا أصبحتم وأمسيتم: أصبحنا وأمسينا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وملة أبينا إبراهيم ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الفطرة الباطنة التي تطهر القلب من الشرك والشك والشقاق والنفاق، وتنقيه من الغل والغش والحقد ومساوئ الأخلاق، وتملأ القلب علما ويقينا وعرفانا، وتوجهه إلى ربه إخلاصا وطمأنينة وبرا وإيمانا. أما الفطرة الظاهرة فقد حث الشارع على تنقية الجسد من الأوساخ والأنجاس والأوضار، ورغب في حلق العانة ونتف الإبط، وحف الشارب وإعفاء اللحية، وتقليم الأظفار، وأخبر أن الطهور الشرعي- وهو إزالة الأخباث والأحداث- شطر الإيمان؛ لما في ذلك من طهارة البدن من الأوضار والأدران، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن النكاح والحناء والتطيب من سنن المرسلين، وأن استدامة الطهور والمداومة عليه من أوصاف المؤمنين، وقال تعالى بعد ما ذكر الطهارة بالماء والتراب: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] فهذه الطهارة التي شرعها من أكبر نعمه على العباد، وبها تكفر الخطايا وتحصل العطايا الكثيرة يوم التناد، فمن توضأ وضوءا كاملا خرجت خطاياه مع الماء من تحت الأظفار، ومن أحسن الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفرت ذنوبه، واستحق رضا الغفار، ومن توضأ فأحسن وضوئه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين- فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، وما ذلك بعزيز على فضل الكريم الغفار، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، إن أمتي يدعون غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» وقال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء». رزقنا الله الاعتراف بنعمه وأياديه، ووفقنا للقيام بما يحبه ويرضيه. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] الآية، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في النصيحة

خطبة في النصيحة


الحمد لله الذي أوجب على عباده النصح في العبادات والمعاملات، وحذرهم من الغش والغل والخيانات، وأشهد أن لا إله إلا الله المعروف بجميل الهبات، وعظيم الصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الرسل الذي رفعه الله أعلى الدرجات، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وأصحابه، ومن تبعهم في كل الحالات.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وبترك مساخطه والإقبال على مراضيه، وتقربوا إليه بالنصيحة فيما يظهره أحدكم أو يخفيه، قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة "، ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» فأخبر صلى الله عليه وسلم خبرا متضمنا للحث على النصيحة والترغيب فيها، إن الدين كله منحصر في النصيحة، أي ومن قام بالنصيحة كلها فقد قام بالدين، وفسره تفسيرا يزيل الأشكال، ويعم جميع الأحوال، أما النصيحة لله فهي القيام بحقه وعبوديته، وذلك يشمل ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان، وما يتعين القيام به من شرائع الإسلام وحقائق الإحسان، من أعمال القلوب والجوارح وأقوال اللسان، وهو فعل المأمور من الفرائض والنوافل، ونية القيام بما يعجز عنه منها. وأما النصيحة لكتاب الله فهي الإقبال بالكلية على تلاوته وتدبره وتعلم معانيه وتعليمها، وجملة ذلك وحاصله هو الإيمان بالله ورسوله وطاعة الله ورسوله. وأما النصيحة لأئمة المسلمين وهم ولاتهم من السلطان الأعظم إلى الأمير إلى القاضي إلى جميع من لهم ولاية كبيرة أو صغيرة، فهؤلاء لما كانت مهمتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم، وذلك باعتقاد إمامتهم والاعتراف بولايتهم، ووجوب طاعتهم في المعروف، وحث الرعية على طاعتهم ولزوم أمرهم، وبذل ما يستطيعه الإنسان من نصيحتهم، وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم، كل أحد بحسب مرتبته، والدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، فإن صلاحهم صلاح للرعية وللأمور، واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم، فإن في ذلك شرا وضررا وفسادا كبيرا ومن رأى منهم مالا يحل فعليه أن ينبههم سرا لا علنا بلطف وعبارة تليق بالمقام، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد وبالأخص ولاة الأمور، فتنبههم على هذا الوجه فيه خير. وأما النصيحة لعامة المسلمين فبمحبة الخير لهم وإيصاله إليهم بحسب الإمكان، وكراهة الشر لهم والسعي في دفعه بحسب القدرة، وتعليم جاهلهم ووعظ غافلهم، ونصحهم وإرشادهم في أمور دينهم ودنياهم، وكل ما تحب أن يفعلوا مع الإحسان؟ فافعله معهم، ومعاونتهم على البر والتقوى، ومساعدتهم في كل ما يحتاجونه، فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته.

فتبين بهذا أن النصيحة تشمل الدين كله أصوله وفروعه، وحقوق الله وحقوق عباده، فأين النصيحة ممن تهاون بحقوق الله فضيعها وعلى محارمه فتجرأ عليها؟! وأين النصيحة من أهل الخيانات وأصحاب الغش في المعاملات؟! وأين النصيحة ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ومن يتتبعون عورات المسلمين وعثراتهم؟! فهؤلاء عن النصيحة بمعزل، ومنزلهم منها أبعد منزل، طوبى للناصحين، ويا خسارة الغشاشين. من الله علي وعليكم بالقيام بالنصيحة، وحفظنا من أسباب الخزي والفضيحة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في عمل اليوم والليلة

خطبة في عمل اليوم والليلة


الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فما أعظمه ربا وملكا قديرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أرسله إلى جميع الثقلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله تعالى جعل الأوقات والشهور تتكرر على العباد لتقوم وظائف الطاعات، وتنشط النفوس على الخيرات، لما مضت الأشهر الثلاثة الكرام، أولها رجب وآخرها شهر الصيام، أعقبها بالشهور الثلاثة شهور الحج إلى بيته الحرام، فكما أن من صام رمضان وقام غفرت له جميع الذنوب والآثام فمن حج البيت أو اعتمر غفرت ذنوبه فضلا من الملك العلام، فما يمضي على المؤمن وقت من الأوقات، إلا ولله عليه وظيفة من وظائف الطاعات، فإذا قام بها ووفاها كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، المعد لهم المنازل العالية الطيبات، أليس من أجل نعمه على العباد أن جعل الليل والنهار يتناوبان كلما ذهب أحدهما خلفه الآخر؟ لإنهاض همم العاملين إلى الخيرات، فمن فاته الورد بالليل استدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار استدركه بالليل على مدى الأوقات، ألا وإن شجرة الإيمان قد غرسها الله في قلوب المؤمنين، ورتب العبادات على اختلافها لتنميتها وتكميلها في كل وقت وحين، فلولا أعمال اليوم والليلة لذوى غرس الإيمان، فإليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفع ذلك إلى الملك الديان، فلقد سبق المفردون الذين لا تزال ألسنتهم تلهج بذكر الله إلى جنات النعيم، ولقد فاز المسارعون إلى الخيرات برفعة الدرجات والقرب من الرب الكريم، فيا ويح المعرضين عن ربهم ما أشد خسارهم وأشقاهم، ويا ندامة الغافلين لقد انفرطت أمور دينهم ودنياهم، فوالله إن ذكر الله لحياة الأرواح والقلوب، وإن القيام بخدمته ليوصل العبد إلى أجل مطلوب. أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، ووقانا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا بلطفه ورعايته. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] الآية. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في فضل الإسلام

خطبة في فضل الإسلام


الحمد لله الذي جعل الإسلام مل الخليقة في دينها، ودنياها وأرشد فيه النفوس إلى هداها وحذرها من رداها، وأشهد أنه الرب العظيم، الذي لم يزل ربا وإلها، وأشهد أن محمد عبده ورسوله أعظم الخلق عند الله فضلا وقدرا وجاها، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاما وبركة لا تنقضي ولا تتناها.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واعلموا أن دين الإسلام هو الدين القيم الذي فيه صلاح العباد، وهو أعظم المنن من الكريم الوهاب، ولا يقبل الله من العباد سواه، وقد تكفل لسالكه بخير دينه ودنياه، فيه من المبادئ السامية، والأخلاق العالية والنظم العادلة ما تشتهيه الأنفس وتمتد إليه الأعناق، وقد تكفل بالحياة الطيبة لمتبعيه لحسنه وجماله، وفضائله التي فضل بها غيره وفاق، أليست عقائده الصحيحة أصح العقائد، وأصلحها للقلوب وأنفعها للأرواح؟ أليست أخلاقه أجمل الأخلاق، وبراهينه في غاية القوة والبيان والإيضاح؟ فهل أعظم وأنفع وأكمل من الاعتقاد اليقيني الذي لا ريب فيه أن تعلم أن لنا ربا عظيما تتضاءل عظمة المخلوقات كلها في عظمته وتضمحل إذا نسبت إلى كبريائه ومجده وحكمته؟ له الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، أحاط بكل شيء علما ورحمة وقدرة وحكمة وحكما، وشمل كل موجود بحسن تدبيره إحكاما ونظاما وحسنا، قد أحسن ما خلقه، وأبدع ما صنعه، وأحكم ما شرعه، له العلو المطلق من جميع الوجوه، وهو الغاية في الكمال فلا نخشى غيره ولا نرجوه، يجيب الداعين، ويفرج الكربات عن المكروبين، من توكل عليه كفاه، ومن أناب إليه وتقرب إليه قربه وأدناه، ومن أوى إليه آواه، لا يأتي بالخير والحسنات إلا هو، ولا يكشف السوء والضراء سواه، يتودد إلى عباده بكل سبيل، ويسبغ عليهم من عطائه وكرمه الجزيل، لا يخرج عن خيره وجوده إلا المتمردون، ولا يعرض عن طاعته إلا الظالمون، فهل تصلح القلوب والأرواح إلا بالتأله إليه؟ وهل للعباد معاذ وملجأ إلا إليه؟ وكذلك يهدي هذا الدين لأحسن الأخلاق، والأعمال، على محاسن الآداب وطرق الكمال، لا خير ولا، فلاح ولا هدى إلا دل عليه، ولا شر ولا ضرر ولا فساد إلا حذر منه. أما حث على الصدق والعدل في الأقوال والأفعال؟ أما أمر بالإخلاص له في كل الأحوال؟ أما حث على الإحسان المتنوع لأصناف المخلوقات، وبالتواضع للحق وللخلق في كل الحالات؟ أما أمر بنصر المظلومين وإغاثة الملهوفين، وإزالة الضر عن المضطرين؟ أما رغب في حسن الخلق بكل طريق، على القريب والبعيد والعدو والصديق؟ أما نهى عن الكذب والفحش والخيانات، وحث على رعاية الشهادات والقيام بالأمانات؟ أما حذر من ظلم الخلق في الدماء والأموال والأعراض والحقوق؟ أما زجر عن القطيعة والإساءة والعقوق؟ أما أمر بفعل الأسباب النافعة مع التوكل على المولى؟ أما حث على التآلف والاجتماع والمودة والإخاء؟ أما أمرنا أن نعد لأعدائنا ما نستطيعه من قوة نافعة وواقية؟ وأن نقوم بكل ما يقيم الدين ويصلح الدنيا بالوسائل الكافية؟ أما أباح لنا الطيبات من المآكل والمشارب والملابس والمعاملات؟ وحرم علينا الخبائث والمضار والمفاسد في كل الحالات؟ فأي صلاح ديني ودنيوي لم يرشد إليه هذا الدين، وأي ضرر وشر إلا بين طرقه وحذر عنه العالمين؟ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في نعيم البرزخ وعذابه

خطبة في نعيم البرزخ وعذابه


الحمد لله الذي لم يزل قائما بشؤون الخليقة على أحسن نظام، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل على الكمال والتمام، فهو الملك العظيم القدوس السلام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم، وأنكم عند انتقالكم من الدنيا لا بد أن يمتحنكم ويسألكم ويجازيكم، فمن كان في الدنيا ثابتا على الصراط المستقيم ثبته الله عند مماته وفي قبره وبشر بالفوز والنعيم، ومن كان في هذه أعمى معرضا عن الله فلا بد أن يلاقي ما قدمت يداه، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قبر الميت أتاه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول المؤمن: ربي الله، فيقولان: له ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره. وأما الفاجر أو الكافر فإذا سأله الملكان من ربك وما دينك ومن نبيك قال: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيضربانه بمطرقة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنس والجن ولو سمعوها لصعقوا، فينادي مناد أن كذب عبدي فافرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فلا يزال معذبا إلى أن تقوم الساعة». أما والله لو نشر لكم أهل القبور، فحدثوكم بما وصلوا إليه من عظائم الأمور لقالوا: قد وجدنا ما وعدنا الله ورسوله حقا ولم نفقد من أعمالنا مثقال ذرة من خير أو شر فأصبحنا مرتهنين صدقا، أما طائعنا فقد اغتبط بعمله ولقي الفوز والروح والريحان، وأما عاصينا فقد باء بالخيبة والحسرة والهوان، يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليتوبوا، ويودون أن لو مكنوا ليعملوا صالحا وينيبوا، وأنتم إلى ما صاروا إليه صائرون، وبكأس الحمام الذي يدور على الخليقة شاربون فتوبوا إلى ربكم ما دمتم في زمن الإمهال، وتقربوا إليه بما استطعتم من صالح الأعمال، {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83] إلى آخر السورة. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

السبت، 27 يونيو 2020

خطبة ابن سعدي في التوحيد

خطبة في التوحيد


الحمد لله الذي خلق المكلفين ليعبدوه، وأدر عليهم الأرزاق ليشكروه، ووضح لهم الأدلة والبراهين ليعرفوه، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي يتعين علينا أن لا ندعو غيره ولا نخافه ونرجوه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فاق الرسل من جميع الوجوه، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه جميع الذين اتبعوه.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وأطيعوه، واحذروا جميع ما يسخطه وتتبعوا مراضيه، أما دلكم على وحدانيته بالآيات البينات، أما وضح لكم معرفته بالحجج والبراهين القاطعات، تعرف لكم بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا ونعمه الواسعة العظمى. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ - الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ - فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8] {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ - وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21] {خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ - ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7 - 9] وجعل له السمع والبصر والفؤاد وجميع القوى فتبارك الله أحسن الخالقين، أحسن بقدرته المخلوقات، وزين السماء بالشمس والقمر والكواكب النيرات، ومهد الأرض وأودع فيها منافعها المتنوعات، وثبتها بالجبال الشم الشاهقات، أجرى فيها العيون والأنهار، وأخرج أصناف الزروع والأشجار والثمار، وجعلها متاعا للبشر وأنعامهم، فتبارك الكريم القهار، أسبغ على عباده النعم، وصرف عنهم المكاره والنقم، فكم له على عباده من الخير المدرار، فهو المتفرد بالعطاء والمنع والخفض والرفع، وهو الواحد الغفار، مجيب الدعوات، وفارج الكربات، ومغيث اللهفات، وسامع الأصوات بتفنن اللغات، فسبحان الحليم الستار، يعلم السر وأخفى، وإليه ترفع الحاجات والشكوى، وإليه ينتهي السائلون، وهو محل النجوى، ومزيل المكاره والشدائد والأخطار، يقول تعالى في الحديث القدسي: «إني والجن والأنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد أتحبب إليهم بالنعم، وأنا الغني عنهم ويتمتعون إلي بالمعاصي وهم الفقراء إلي»، فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، وتوبوا إليه كل وقت واستغفروه، وانظروا إلى كثرة نعمه عليكم، فاشتغلوا بالثناء عليه، والجؤا إلى الله وتوكلوا عليه. أجارنا الله وإياكم من النار وغفر لنا الذنوب والأوزار، وبارك لنا ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي عن الآيات المخوفة والتحذير من الذنوب

خطبة عن الآيات المخوفة والتحذير من الذنوب


الحمد لله الحكيم في خلقه ورزقه وتدبيره، الحميد في خفضه ورفعه وعطائه ومنعه وجميع تقديره، الغفور الرحيم لمن خشيه واتقاه، شديد النكال والعقوبة على من عانده وعصاه، وأشهد أنه لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومختاره ومصطفاه، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله فإن تقوى الله بها حصول الخيرات وفيها دفع الشرور والمكروهات قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] وأخبر أن الدعاء سبب للإجابة بحصول المطلوب، وأن الذنوب أكبر الموانع لنزول الغيث، ونزع البركة من الأرض والثمار والحبوب، كيف تطمعون في حصول ما تحبون وأنتم مصرون على الذنوب والجنايات، كيف ترجون حصول الغيث وأنتم مقيمون على الغش والخيانات، وقد برئ صلى الله عليه وسلم من أهل الكذب والغش في كل المعاملات، أما سمعتم أن بخس المكاييل والموازين وبخس الناس أشياءهم أهلك الله به أهل مدين بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة، وأن من لم يتب منها فعاقبته أفظع العواقب وقد باء بالصفقة الخاسرة، فوالله إن الحرام والغش ليستدرج صاحبه ثم يمحق محقا، وأن المكاسب الخبيثة مع إثم صاحبها لتنزع منها البركة حقا وصدقا، وأن المكاسب الطيبة ليصلح الله بها الأحوال، والورع عن الحرام خير لصاحبه في الحال والمآل، أما ترون الله يستعتبكم ويخوفكم بما يريكم من الآيات والشدة والنكال، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ويصرفها عمن يشاء وهو شديد المحال؟! أما ترون الله يصرف عنكم أمورا وشرورا قد انعقدت أسبابها بما كسبت أيدي العباد لتتوبوا إليه وترجعوا عن الشر والفساد؟! أما علمتم أن المعاصي تخرب الديار العامرة، وتسلب النعم الباطنة والظاهرة؟! فكم لها من العقوبات والعواقب الوخيمة، وكم لها من الآثار والأوصاف الذميمة، وكم أزالت من نعمة، وأحلت من محنة ونقمة، فاتقوا الله عباد الله واحذروه، واعلموا أنكم لا بد أن تلاقوه، فيحاسبكم وينبئكم بما قدمتموه وأخرتموه. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في الاهتمام بصلاح القلب

خطبة في الاهتمام بصلاح القلب


الحمد لله الذي أصلح بلطفه الصالحين، وخلع عليهم خلع الإيمان واليقين، وحفظهم بعنايته مما يقبح ويشين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مالك يوم الدين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن مدار التقوى على إصلاح القلوب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي " القلب» فمتى صلح القلب بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وصحح ذلك بالمعرفة وحسن الاعتقاد ثم توجه القلب إلى ربه بالإنابة والقصد وحسن الانقياد - فإن الجوارح كلها تستقيم على طريق الهدى والرشاد، فصلاح الجوارح ملازم لصلاح القلوب، فاغتنموا رحمكم الله إصلاحها بحسن النية في كل مطلوب، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر ما أكنته القلوب، فأخلصوا الأعمال لله في كل ما تأتون وما تذرون، وأنيبوا إلى ربكم واطمعوا في رحمته لعلكم ترحمون، فالعمل اليسير مع الإخلاص خير من الكثير مع الرياء، والثمرات الطيبة إنما تحصل لمن حقق النية واتقى، فمن أصلح باطنه. أصلح الله له الأحوال، وسدده في الأقوال والأفعال، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] وسلوا مولاكم أن يطهر قلوبكم من الغل والحقد، ومن الكبر والتعاظم على العباد والحسد، فقد قال-صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة من ولاه الله أمركم، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» طوبى لمن أخلص لله في أقواله وأفعاله، ورجا فضله في حاله ومآله، وطهر قلبه من البغضاء والعداوة للمسلمين، وتعاون معهم في أمور الدنيا والدين، وويل لمن تعلق قلبه بأحد من المخلوقين، أو امتلأ من الغل والحقد على المؤمنين؛ أما الأول فإنه يسعى في علو الدرجات، وأما الآخر فإنه يتردى في مهاوي الهلكات. اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا، ويا من بيده خزائن كلى شيء اسعفنا بمطلوبنا، ويا من يغفر الذنوب جميعا اغفر ذنوبنا واستر عوراتنا وعيوبنا إنك أنت الجواد الكريم. {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في نصائح نبوية

خطبة في نصائح نبوية


الحمد لله الذي من على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وخصه بجوامع الكلم وغرر الحكم، وجعل قبول وصاياه واتباع هديه داعيا لمحبة رب، العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الناصح البار الأمين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه الطاهرين، ومن تبعهم إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فمن قبل نصائحه استقام على الصراط المستقيم، وأوصله ذلك إلى جنات النعيم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت وأتبع الحسنة السيئة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»، ثلاث منجيات وثلاث مهلكات: فأما المنجيات فتقوى الله في السر والعلانية، والقول بالحق في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، أما المهلكات فهوى متبع وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن، ومن تواضع لله رفعه، فهو في نفسه صغير وفي أعين الناس عظيم، ومن تكبر وضعه الله فهو في أعين الناس صغير، وفي نفسه كبير، حتى لهو أهون عليهم من كلب وخنزير، بئس العبد عبد تخيل واختال، ونسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى، ونسي الجبار الأعلى، بئس عبد سهى ولهى ونسي المقابر والبلاء، بئس العبد عبد عتى وطغى، ونسي المبتدأ والمنتهى، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله، بئس العبد عبد رغب يذله، من التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وهو الإشراك بالله، يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وديوان لا يتركه الله وهو ظلم العباد فيما بينهم حتى يقتص بعضهم من بعض، وديوان لا يعبأ الله به؛ ظلم العباد فيما بينهم وبين الله، فذاك إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء تجاوز عنه، من الله علي وعليكم بقبول النصائح، وحمانا من جميع الشرور والقبائح. {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في قوله صلى الله عليه وسلم قد أفلح من هدي للإسلام

خطبة في قوله صلى الله عليه وسلم قد أفلح من هدي للإسلام


الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحيم الغفار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين الأبرار، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله عماد الدين، وحقه الواجب على الخلق أجمعين، قال صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من هدي للإسلام وكان عيشه كفافا وقنعه الله بما آتاه». فجعل صلى الله عليه وسلم هذه الثلاث عنوان الفلاح، وبها يحصل الخير والنجاح، فإن من جمع الله له هذه الثلاث فقد جمع له خير الدنيا والآخرة، وتمت عليه النعم الباطنة والظاهرة، وبها الحياة الطيبة في هذه الدار، والسعادة الأبدية في دار القرار. أما الهداية للإسلام، فإن الإسلام به العصمة والنجاة من طرق الجحيم، ولن يقبل الله من أحد دينا غير الاستسلام للرب العظيم. الإسلام هو الاستسلام الباطن والظاهر لله، وهو الانقياد الكامل لطاعة الله، الإسلام مقصوده القيام بحق الله وحق العباد، وروحه الإخلاص لله والمتابعة للرسول في الهدي والرشاد، المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وأما الكفاف من الرزق فهو الذي يكفي العبد، ويكف قلبه ولسانه عن التشوف وسؤال الخلق، واغتباطه برزق الله والثناء على الله بما أعطاه من ميسور الرزق. فإن من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وأغبط الناس من عنده رزق يكفيه، وبيت يؤويه، وزوجة ترضيه، وسلم من الدين الذي يثقله ويؤذيه، فليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغني غني القلب، قال صلى الله عليه وسلم: «من كانت نيته الآخرة جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه أمره ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له»، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن ما عند الله لا ينال عصيته، وإنما ينال بطاعته وخدمته، فاحمدوا الله عباد الله على الهداية للإسلام واشكروه على الكفاية من الرزق والغنى عن الآثام، وانظروا إلى من فضلتم عليه بالعافية والرزق والعقل والتوفيق، فإنه أحرى لشكر النعم والهداية لأقوم طريق، من الله علينا وعليكم بالقيام بحقه والقناعة بميسور رزقه، إنه جواد كريم. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في العقل

خطبة في العقل


الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين وإمام المتقين، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واذكروا ما تفضل به عليكم من العقل الذي تميزتم به على كثير من المخلوقات، واحذروا أن تضيعوه أو تهملوه في وضعه في الأمور الضارة أو غير الأمور النافعات، فما أنعم الله على عبد نعمة فاستعملها فيما خلقت له إلا حفظها الله ونماها، ولا أهملها ووضعها في غير موضعها إلا سلبها وبقي عليه شقاها، فهذا العقل الذي منحكم الله إياه من أفضل العطايا، فما بالكم تستعملونه في ركوب الدنايا، خلق الله لكم العقول لتعقلوا بها ما ينفعكم من المعارف والعلوم النافعة، وترتقوا بها إلى مدارج الفلاح بهمم قوية وقلوب واعية، فقاوموا بها ما يضركم من الأخلاق الرذيلة، فلا خير فيمن غلبت شهوته عقله فألقته في المهالك الوبيلة، فكروا في المصالح والمنافع فإذا توضحت فاسلكوها، وزاحموا بها النفوس العالية المقبلة على الخير ونافسوها، وإياكم أن تكون هممكم في تحصيل الأغراض الدنيئة فتخسروا عقولكم وتضيعوها، طوبى لمن كانت أفكاره حائمة حول ما يحبه الله، دائرة حول ما ينفع عباد الله، الإخلاص لله في كل الأمور شعاره، والإحسان المتنوع على الخلق دثاره، طوبى لمن كانت شهوته تبعا لعقله فآثر النافع وفاز بالسعادتين، وويل لمن غلبت شهوته عقله فاختار الرذائل فخسر الدنيا والدين، من ترك ما تهواه نفسه لله لم يجد فقده، وعوضه الله الإيمان والثواب، ومن تبع هواه وأعرض عما يحبه مولاه ابتلاه بالهموم وأنواع الأوصاب، سبحان من فاوت بين عباده بالعقول والهمم والأعمال، وباين بينهم في صفات النقص والكمال، وقسم بينهم الأخلاق كما قسم بينهم الأرزاق، فتبارك الله الواحد الملك الخلاق. من الله علي وعليكم بمحاسن الأعمال وأحاسنها، وحفظنا من أسافل الأخلاق وأراذلها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في كل معروف صدقة

خطبة في كل معروف صدقة


الحمد لله المعروف بالخير والكرم، والامتنان المجازي البر بالبر، وعلى الإحسان بالإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الرسل وخلاصة الإنسان، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن مدار التقوى على فعل الخير واجتناب الشر والفساد، وعلى إخلاص الدين للمولى والإحسان إلى العباد، فلقد قال من أعطى جوامع الكلام: «كل معروف صدقة» فيالها من كلمة عظيمة جامعة للخيرات، وياله من كلام بليغ محيط بأصناف البر والبركات، فكما دخل في هذا الإحسان الديني يدخل فيه الإحسان الدنيوي، وكما يدخل فيه المعروف بالجاه والمقال، يدخل فيه المعاونات البدنية والإحسان بالمال، ويتناول المعروف إلى الصاحب والقريب، والمعروف إلى العدو والبعيد، فمن علم غيره علما أو أهدى له نصحا فقد تصدق عليه، ومن نبهه على مصلحة دينية أو دنيوية أو حذره من مضرة فقد أحسن إليه.

أيها العبد لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، وتباشر جليسك بالبشاشة وحسن الخلق، ولو أن تفرغ الدلو للمستقي والمتوضي، ولو أن تعطي صلة الحبل وتعير الإناء للمستجدي، وكلما كانت العارية أنفع كان أجرها أفضل، ومن المعروف إماطة الأذى عن الطريق، وعزل العظم والشوكة وجميع ما يؤذي، ومن المعروف هداية الأعمى في المساجد والطرق وهداية الحيران، وأن تسمع الأصم وتطعم الجائع وتسقي الظمآن، وتغيث المكروب واللهفان، ومن المعروف إعانة أصحاب الحوائج من الأقارب والأباعد والجيران، والعفو عمن ظلمك ومقابلة الإساءة بالإحسان، ومن المعروف الدعوة إلى طعام أو قهوة أو شراب، للأغنياء والفقراء والبعداء والأقراب، وسماحك لمن ينتفع بشيء من ملكك من ماشية ونخل وأشجار، بلبن أو خوص أو حطب أو ثمار، وإعانة المسلم بكتابة وعمل صنعة ونقل متاع، ومن المعروف بذل الفضل في المعاملات والمحاباة فيها فما شيء يترك ثوابه ولا يضاع، ومن المعروف الإحسان إلى المماليك من الآدميين وسائر الحيوانات، ففي كل كبد حراء أجر واكتساب للخيرات، ومن المعروف أن تبذل لغيرك دواء نافعا أو تباشره بطب أو تصف له حمية أو دواء ناجعا، فكلما أوصلته إلى الخلق من البر والإحسان والتكريم، فأنه داخل في خطاب النبي الكريم، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في التحذير من حلق اللحى

خطبة في التحذير من حلق اللحى


الحمد لله الذي من علينا بالنبي الكريم، وهدانا به إلى الصراط المستقيم، واستنقذنا به من طرق الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الرب الرحيم، الملك الجواد الكريم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في كل هدي قويم.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وتمسكوا بهدي نبييكم المصطفى وامتثلوا أوامره واجتنبوا ما عنه زجر ونهى، فقد أمركم بحف الشوارب وإعفاء اللحى، وأخبركم أن حلق اللحى وقصها من هدي الكفار والمشركين، ومن تشبه بقوم فهو منهم فأحذروا مشابهة الظالمين، يا عجبا لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، كيف يزهد في هدي نبيه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان؟! ويختار هدي كل كافر وفاسق فأين الأيمان؟ لقد أكرم الله الرجال باللحى وجعلها لهم جمالا ووقارا، فيا ويح من حلقها وأهانها وعصى نبيه جهارا، أيظن هؤلاء أن حلقها يكسب صاحبها بهاء وجمالا، كلا والله إنه ليشين الوجه، ويذهب نوره، ويزداد به إثما ووبالا، ولكنه الاقتداء الضار يحسن كل قبيح، ويوقع صاحبه في الشر الصريح، أما قال أهل العلم: من جنى على لحية غيره فأزالها أو أزال جمالها على وجه لا يعود فعليه الدية كاملة؟! ثم هو مع ذلك يجني على نفسه ويجحد نعمة الله الشاملة، أما ترون وجوه الحالقين لها كيف يذهب بهاؤها وخصوصا عند المشيب، وتكون وجوههم كوجوه العجائز قد ذهبت محاسنها، وهذا من الشيء العجيب! فالله الله عباد الله في لزوم دينكم، ولا تختاروا عليه سواه، فإن فيه الخير والسعادة وكل جمال قد حواه، فوالله ما في الاقتداء بأهل الشر إلا الخزي والندامة، ولا في الاقتداء بنبيكم صلى الله عليه وسلم إلا الصلاح والفلاح والكرامة، وإياكم أن تصبغوها بالسواد، فقد نهى عن ذلك خير العباد، فتوبوا إلى الله واستغفروه، وتمسكوا بالخير ولازموه، قبل أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، يا ليتني حذرت من أهل الشر واقتديت برسول الله، يا ليتني أعود إلى الدنيا لأعمل صالحا وأتوب، فالآن فات كل مطلوب، وحصل كل مرهوب، وأحاطت بأهل المعاصي الخطايا والذنوب، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا - يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29]

خطبة ابن سعدي في حديث إني حرمت الظلم

خطبة في حديث إني حرمت الظلم


الحمد لله الغني الحميد، الواسع الكرم ذي الخير المديد، يسأله من في السماوات والأرض وقد تكفل بشؤون العبيد، فسبحانه من إله كريم، وسع كل شيء رحمة وعلما، وتبارك من أولى عباده عفوا ومغفرة وحلما. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، في جميع النعوت والصفات، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الرسل وخير المخلوقات، اللهم صل وسلم، وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، واشكروه على سوابغ نعمه وأياديه، وأشعروا قلوبكم الافتقار إليه على الدوام في هداية قلوبكم وحصول مطلوبكم على التمام، فقد سعد من تعلق قلبه خوفا ورجاء بالملك المولى وقد خاب من طغى وأعرض واستغنى، فمن تعلق بغير الله وكل إليه، ومن تعلق بربه أسعفه بمراده وقربه إليه، قال صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، ذلك بأني جواد واجد ما جد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له كن فيكون، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في بعض حقوق النبي صلى الله عليه وسلم

خطبة في بعض حقوق النبي صلى الله عليه وسلم


الحمد لله الذي أوجب لرسوله حقوقا هي من لوازم الإيمان، وفضله وخصه بخصائص لا يشاركه فيها ملك ولا إنسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالوحدانية والكبرياء والسلطان، الذي له كل اسم حسن ووصف جميل، وهو الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس والجان. اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، فإن الله كتب الرحمة الكاملة للمؤمنين، فقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 156 - 157] فهذه الآيات الكريمة قد تضمنت ما يجب لهذا النبي الكريم من الحقوق التي لا يحصل ولا يتم الإيمان إلا بها، حقه الأصيل أن نؤمن به ونعترف بصدقه وأن كل ما جاء به حق لا ريب فيه، وأن نتبعه في أصول الدين وفروعه، ونقدم قوله وطاعته على طاعة كل أحد، ونعلم أنه لا يأمر إلا بالمعروف الذي هو الخير والهدى والبر والصلاح، ولا ينهى إلا عن المنكر الذي هو كل ذر وفساد وأعمال قباح، وأنه أحل لنا جميع الطيبات من المآكل والمشارب والملابس والمناكح وجميع التصرفات، وحرم كل خبيث من هذه الأشياء فرسالته احتوت على كل الكمالات، وكان دينه مبنيا على اليسر والسهولة، ورفع الأغلال قرة العيون وحياة القلوب، ووسيلة إلى كل خير وكمال، وعلينا أن نعزره بنصره ونصر شريعته في حياته وبعد مماته، فهو أولى بنا من أنفسنا في أمور العبد وحالاته، وعلينا أن نخضع لهديه ونقتدي به في جميع حركاته وسكناته، وعلينا أن نوقره بالإجلال والإكرام، والتوقير التام والاحترام، وأن يكون أحب إلينا من والدنيا وأولادنا ونفوسنا والناس أجمعين، وأن نكثر من الصلاة والتسليم عليه في كل وقت وحين، وأن لا ندعوه باسمه بل إذا خاطبناه فعلى وجه الإجلال والتكريم، وقد رفع الله له ذكره، فلا يذكر الله إلا ذكر معه الرسول، كما في الخطب والشهادتين، اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين، لما له من الحق الأكبر على الناس أجمعين، وكما أنه صلى الله عليه وسلم تميز عن الخلق بكل أوصاف الكمال الممكن الذي لا يساويه فيه مخلوق فكان حقه بعد حق الله أوكد الحقوق، من الله علي وعليكم بمعرفة نبينا والقيام بحقه والاقتداء به في كل حال، وثبتنا بالقول الثابت على سنته في الحال والمال، وحشرنا في زمرته، وأدخلنا في شفاعته، وأوردنا حوضه العذب الشهي الزلال، إنه جواد كريم واسع النوال. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في وجوب معرفة الله وتوحيده

خطبة في وجوب معرفة الله وتوحيده


الحمد لله المتوحد بصفات العظمة والجلال، المتفرد بالكبرياء والكمال، المولي على خلقه النعم السابغة الجزال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الرسل في كل الخصال، اللهم صل وسلم، على محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وأشرف آل.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واعبدوه، فإن الله خلقكم لذلك قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] خلقهم ليعبدوه ويدينوا بعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه والتوجه في كل الأمور إليه، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الرب الذي أوجد جميع المخلوقات، وأعدها وأمدها بكل ما تحتاج إليه من كل الجهات، وهي الفقيرة إليه بالذات وكل الصفات، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الملك المالك لجميع الموجودات والعوالم والممالك، الذي له الحكم والحمد في الأولى والآخرة وإليه يرجعون، وإليه تنتهي الأقدار ومنه تبتدئ، وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون، خلقهم ليعرفوا أحكامه الشرعية والقدرية والجزائية، ولها يخضعون، فيعلمون أن كل شيء بقضاء وقدر، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، هو مولانا وعليه فليتوكل المؤمنون، فنرضى بالله ربا وسيدا ومدبرا وحاكما، وبمحمد نبيا رسولا ومبشرا ومنذرا، وبالإسلام دينا وطريقا ومسلكا، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الله الذي لا إله إلا هو، فليس له شريك في ألوهيته، كما ليس له شريك في ربوبيته وملكه، فكما أنه الخالق الرزاق المدبر لجميع الأمور فهو الإله المعبود، المحمود المشكور، وكما أن جميع النعم الظاهرة والباطنة منه لطفا وإحسانا، فهو المستحق لكمال الشكر إخلاصا ومحبة له وخضوعا وإذعانا، وكما أنه الذي لطف بكم وعدلكم وسواكم، فليكن وحده معبودكم ومرجوكم ومولاكم، وكما شرع لكم دينا حنيفا ميسرا موصلا للفلاح، فاسلكوا الصراط المستقيم متقربين إليه في الغدو والرواح، فليس لكم رب سواه، ولا معبود ومقصود إلا الله، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا معول في الأمور إلا عليه، فقوموا بعبوديته ظاهرا وباطنا لعلكم تفلحون، واستعينوا به وتوكلوا عليه لعلكم ترحمون، إذ سألتم فلا تسألوا إلا الله، وإذا استعنتم فلا تستعينوا بأحد سواه، فإن الخلق كلهم فقراء عاجزون، وجميعهم إلى ربهم مضطرون مفتقرون، أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، ووفقنا لمحبته ومعرفته والقيام بطاعته، ولا حرمنا خير ما عنده من الإحسان بشر ما عندنا من الإساءة والعصيان. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في سؤال العبد عن النعم

خطبة في سؤال العبد عن النعم


الحمد لله الذي أعطى عباده الأسماع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون، وأسدى عليهم أصناف النعم وسيحاسبهم عليها وعنها يسألون، فمن استعان بها على طاعة المنعم فأولئك هم المفلحون، ومن صرفها في معاصيه، فأولئك الذين خسروا أنفسهم وأهلهم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ختمت به الأنبياء والمرسلون، وبهديه وسيرته يهتدي المهتدون، اللهم صلي وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم في الأقوال والأفعال والحركة والسكون.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واعرفوا مقدار نعم الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس، عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم» . فكلنا معشر المسلمين مسئول عن هذه الخمس، كما أخبر به الصادق في المقال، فلينظر العبد موقع حاله، وماذا يجيب به هذا السؤال، فمن قال بصدق: يا رب قد أفنيت عمري في طاعتك، وأبليت قوتي وشبابي في خدمتك، ولم أزل مقلعا تائبا عن معصيتك واكتسبت مالي من طرق الحلال واجتنبت المكاسب الردية الموجبة للهلاك والنكال، وأنفقته فيما تحب واجتنبت إنفاقه في الفسوق، ولم أبخل بالزكاة ولا في النفقات الواجبة وآتيت الحقوق، وعلمت الخير ففعلته، وعرفت الشر فتركته، فليبشر عند ذلك برحمة الله وأمانه، والفوز بجنته ورضوانه. ومن قال: قد قضي عمري وشبابي في الذنوب والغفلات، ولم أبال بالمكاسب الخبيثة ولا بالغش والخيانات، وعلمت الخير والشر فلم انتفع بعلمي، ولا أغنت عني معرفتي ولا فهمي. فذلك العبد الذي هلك مع الهالكين، وسلك سبيل الظالمين المعتدين. فيا سوءتاه حين يندب الشاب شبابه، ويفتضح الشيخ إذا قرأ كتابه ويا ندامة المفرطين حين يحشر المتقون إلى الرحمن وفدا، ويساق المجرمون إلى جهنم وردا، لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا، ينادون مالكا خازن النار: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ - لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77 - 78] ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ - قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 107 - 108] الآيات. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة واعظة ل ابن سعدي

خطبة واعظة


الحمد لله الجليل وصفه، الجميل لطفه، الجزيل ثوابه، الشديد عقابه، الحي القيوم، الذي أوجد الكون من عدم ودبره، وخلق الإنسان من نطفة فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقره، ثم إذا شاء انشره، فسبحانه من إله ما أعزه وأقدره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة معترف بوحدانيته، مقر بألوهيته وربوبيته وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل بريته، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه صفوة الله من خلقه وخيرته.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله ولا تغتروا بإمهاله وحلمه، وأصلحوا أعمالكم فإنها محصاة عليكم ومجازون عليها بحكمته وعلمه، واحذروا الدنيا فإنها كثيرة آفاتها وعللها، مدبر مقبلها ومائل معتدلها، إن أضحكت بزخارفها قليلا، أبكت بأكدارها طويلا، انظروا من جمعها ومنعها، كيف انتقلت إلى غيره وصار عليه تعبها ومأثمها، فتفكروا في عواقب من دانت لهم الأمور، وأسكرهم الجهل والغرور، وصنعوا فيها ما اشتهوا وأرادوا، ووصلوا من أرادوا وصله وقطعوا وعادوا، كيف هجم عليهم الموت بغتة وهم لا يشعرون، وكيف انتزع أرواحهم العزيزة وهم في غفلة نائمون، عوضهم موحشات القبور، بعد منتزهات القصور، وصنع بهم الدود مستبشع الأمور، وتراكيبهم المعتدلة أمالها، ومفاصلهم المتصلة أزالها، وعيونهم المليحة أطفأ نورها وأحالها، ووجوههم الصبحية المليحة غيرها، وألسنتهم الفصيحة أسكتها وقطعها، وشعورهم الحالكة مزقها، وأبدانهم الناعمة لعب البلاء بها وفرقها، يتمنون الرجوع إلى الدنيا وهيهات لهم الرجوع، ويودون أن يردوا ليستدركوا ما يقدرون عليه من التوبة والنزوع، فلو سألتهم عما وصلوا إليه من الأحوال، لقالوا قد لقينا الشدائد والقلاقل والأهوال، ولقد حوسبنا على الدقيق والجليل من الأعمال، فلم نفقد من أعمالنا قليلا ولا كثيرا ولم نجد لنا شافعا ولا وليا ولا نصيرا، فيا حسرتنا على ما فرطنا في جنب الله، ويا ندامتنا على ما تجرأنا عليه من محارم الله، ويا شقاءنا من العذاب الدائم، ويا فضيحتنا من الحزن والخزي المتراكم، لقد جاءتنا الآيات والنصائح فرددناها، ولقد توالت علينا النعم من ربنا فما شكرناها، ولقد قدمنا الدنيا على الآخرة وآثرناها، فالآن أصبحنا بأعمالنا مرتهنين، وعلى ما قدمت أيدينا من الجرائم نادمين. {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء: 205] الآيات. بارك الله لي ولكم.