السبت، 4 يوليو 2020

خطبة عيد الأضحى ل محمد بن عبد الوهاب


خطبة عيد النحر


الله أكبر (تسعا نسقا) . الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر كلما أحرموا من الميقات، وكلما لبى الملبون وزيد في الحسنات. الله أكبر كلما دخلوا فجاج مكة آمنين، وكلما طافوا بالبيت وسعوا بين الصف
ا والمروة ذاكرين مكبرين. الله أكبر كلما وقفوا بعرفة خاضعين مخبتين منيبين مهللين.

الله أكبر كلما وقفوا بالمشعر الحرام طالبين راغبين. الله أكبر كلما رموا الجمرات مكبرين. محلقين رؤوسهم ومقصرين. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

الحمد لله الذي خلق آدم بيده من صلصال كالفخار، وأسجد له ملائكته المقربين الأطهار، فسجدوا إلا إبليس أبى فباء باللعنة والصغار. مسح تعالى ظهر آدم بيده فاستخرج ذريته كالذر ونفذ فيهم الأقدار. قبض قبضة وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي. وقبض قبضة فقال: هؤلاء ولا أبالي إلى النار. لا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي، بل هو النافع الضار. أحمده سبحانه على نعمه الغزار.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيدا مقتنى ليوم الحاجة والافتقار، متظاهرا عليه اللسان والجنان بالسر والجهار، مشهودا به لربنا كما شهد به لنفسه وشهدت به ملائكته وأولو العلم من خلقه، لا إله إلا هو العزيز الغفار.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صلى ونحر، وحج واعتمر، وجاهد المنافقين والكفار. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الأخيار، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، والتمسوا من الأعمال ما يحب ويرضى. واعلموا أن يومكم هذا يوم فضيل، وعيد جليل، رفع الله قدره وأظهر، سماه يوم الحج الأكبر. وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم فقال في خطبته: "أيها الناس اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم ") . وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". وفي هذا اليوم يجتمع الحاج بمنى يستكملون مناسك الحج، ويتقربون إلى الله بالعج والثج، يحيون سنة

أبيهم إبراهيم بإهراق الدماء في هذا اليوم العظيم، فإن الله ابتلاه بأن أمره يذبح ولده، وفلذة كبده، ليسلم قلبه لله، ولا يكون فيه شركة لسواه، فإن العباد لذلك خلقوا، وبه أمروا؛ فامتثل أمر ربه طائعا، وخرج بابنه مسارعا.

وقال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، لا متوقفا ولا متفكرا. فاستسلما جميعا للقضاء المحتوم، وسلما أمرهما للحي القيوم. فلما تله للجبين، وأهوى إلى حلقه بالسكين، أدركته رحمة أرحم الراحمين، ونودي: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}. وأتي بكبش من الجنة فذبحه فداء ولده. فأحيا نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم هذه السنة وعظمها، فأهدى في حجته مائة بدنة، وضحى في المدينة بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن محمد وآل محمد، والآخر عن أمة محمد. فبادروا رحمكم الله إلى إحياء سنن المصطفين الأخيار، ولا تكونوا ممن بخل وآثر كنْز الدرهم والدينار، على طاعة الملك الغفار. فأكثر العلماء على أنها مستحبة، وبعضهم يرى الوجوب مع اليسار. وأفضلها أكرمها وأسمنها وأغلاها، وتجزي الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبدنة عن سبع شياه.

والمجزي من الضأن ما تم له ستة أشهر، ومن الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن المعز ما تم له سنة. ولا تجزي العوراء البين عورها، ولا العرجاء البين ظلعها، ولا المريضة البين مرضها، ولا الهزيلة التي لا تنقي، ولا العضباء التي قطع أكثر أذنها أو قرنها. وتنحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى يطعنها في وهدتها قائلا: بسم الله الله أكبر، اللهم إن هذا منك ولك. ويتلفظ بالنية فيقول عن فلان. وتذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر. والسنة جعل الأضاحي أثلاثا: ثلثا لأهله، وثلثا لصديقه، وثلثا للفقراء. ووقت الذبح من انقضاء صلاة العيد إلى آخر اليوم الثالث من أيام التشريق. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَرضي الله عنه لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

الخطبة الأخيرة


الحمد لله سيد الجمع والأعياد، رافع السموات بغير عمد ترونها، وباسط الأرض ومرسيها بالأطواد. أحمده سبحانه على نعمه التي لا يحصى لها تعداد. وأشكره. وبالشكر تحلو النعم وتزداد. وأشهد أن لا إله إلا الله

وحده لا شريك له، شهادة أعدها ليوم التناد.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى سبيل الرشاد، الداعي إلى الله على بصيرة حتى دانت لدعوته العباد. اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأمجاد، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه ليس السعيد من أدرك العيد، ولبس الجديد، وركب الخيل المسومة، وخدمته العبيد. إنما السعيد من اتقى الله فيما يبدي ويعيد، وفاز بجنة نعيمها لا يفنى ولا يبيد، ونجا من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم وشرابهم الصديد، ولباسهم القطران والحديد. واتقوا الله عباد الله بامتثال أمره الأكيد، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فهذا شأن العبيد.

واعلموا أن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد النبي الهاشمي الأوفى. وارض اللهم عن الأربعة الخلفا، والسادة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أهل الصدق والوفاء، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان ولطريقتهم اقتفى، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم أقم علم الجهاد، واقمع سبيل أهل الشرك والريب والفساد، وانشر رحمتك على هؤلاء العباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد. عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون. وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إن الله يعلم ما تفعلون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


الثلاثاء، 30 يونيو 2020

خطبة ابن سعدي في وجوب العدل في كل شيء

خطبة في وجوب العدل في كل شيء


الحمد لله الذي أوجب العدل في كل الأحوال، وحرم الظلم في الدماء والأعراض والحقوق والأموال، وأشهد أن لا إله إلا كامل الأوصاف وواسع النوال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فاق جميع العالمين في العدل والفضل والإفضال، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وأشرف آل.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أن مدار التقوى على القيام بالعدل في حقوق الله وحقوق العباد، فإن التوحيد غاية العدل والشرك أعظم الظلم وأشنع الفساد، إذا كان الله هو الذي خلقك ورزقك وعافاك وأعطاك فمن العدل الواجب أن يكون معبودك، وإليه ترجع في رغباك ورهباك، فمن أظلم ممن سوى المخلوق الناقص الفقير بالرب الغني الكامل القدير. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] الآية. قد أمر الله ورسوله بالعدل بين الناس في جميع الحقوق، ونهى عن الظلم والجور والفسوق. بالعدل تعمر الأسباب الدينية والدنيوية، ويتم التعاون على المصالح الكلية والجزئية، والعدل واجب في الولايات كلها والمعاملات، وهو أن تؤدي ما عليك كاملا كما تطلبه تاما من كل الجهات. فمتى عدل الرعاة والمعاملون في المعاملات صلحت الأمور واتسعت دائرة الأسباب والتجارات، ومتى رفع من المعاملة روح العدل والأمانة وحل محله البخس والغش والتطفيف والخيانة، فمنع الإنسان ما عليه واستوفى ماله. {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ - الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ - وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ - أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1 - 5] ويل لهم مما يترتب على البخس والتطفيف من العقوبات، وما يرفع بذلك من الخيرات والبركات، وما يتوقف بسببه كثير من المعاملات النافعات، كل معاملة فقدت العدل فهي معاملة ضارة، قال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من غشنا». فالغش والمعاملات الجائرة ليست من الدين، وصاحبها متعرض لعقوبة رب العالمين. والعدل يكون في الحقوق الزوجية، فعلى كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف، فمتى قام كل منهما بما عليه التأمت الزوجية، وتم لهما حياة سعيدة طيبة، وحصلت الراحة وحلت البركة، ونشأت العائلة نشأة حميدة، ومتى لم يقم كل منهما بالحق الذي، عليه، تكدرت الحياة، وتنغصت اللذات، وطال الخصام وتعذر الوئام، قال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. فالإمام راع على الناس ومسئول عن رعيته. والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته. والمرأة راعية على بيت زوجها هي مسئولة عن رعيتها، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» فذكر صلى الله عليه وسلم الولايات كلها كبارها وصغارها، وأخبر أن من تولى ولاية فهو مسئول عنها، وهل عدل فيها وسلك المأمور به فله الثواب، أو ظلم فيها وجار فعليه العقاب. العدل تقوم به الولايات، وتصلح به الأفراد والجماعات، وتمشي به الأحوال في كل الأوقات. سلك الله بنا وبكم سبيل العدل والإنصاف، وأعاذنا وإياكم من الجور والأعتساف، وبارك لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في الحث على تدبر القرآن الكريم

خطبة في الحث على تدبر القرآن الكريم


الحمد لله الذي قال لنبيه المصطفى، منوها بعظمة القرآن وما فيه من الرحمة والنور والهدى: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى - إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى - تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا - الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى - لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى - وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 1 - 8] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المولى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المختار من الخليقة المجتبى، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأخيار النجبا.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بمراعات العلم وتحقيق التقى، وتدبروا هذا الكتاب العزيز فإنه مبارك، فيه الرحمة والشفا، فهو الهدى الذي يهدي من الضلالة، وينير الحقائق الصحيحة في ظلم الجهالة، يهدي إلى معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويبين الطريق الموصل إلى فضله وأفضاله، ويوضح الأحكام كلها في العبادات والمعاملات، ويبين الحقوق في جميع التعلقات، وهو الشفاء من الأمراض البدنية والقلبية، وبه العصمة والنجاة في الأمور الدينية والدنيوية، وهو المزيل لأمراض الشبهات وأمراض الشهوات، بما فيه من البراهين القاطعة، والمواعظ المؤثرة والتذكيرات، وهو الموصل إلى المعارف الجليلة والعلم واليقين الكاشف للحقائق كلها بالتوضيح الكامل والبراهين، فيه نبأ الأولين والآخرين، وفيه الحكم العادل بين الخلق أجمعين، وفيه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ما تطمئن به القلوب، وفيه التفاصيل العظيمة النافعة الموصلة إلى كل مطلوب، كتاب عظيم هيمن على الكتب السابقة حتى أحاط بها وحواها، وحكم بالحق في كل ما تنازعت فيه الأمم، أولاها وأخراها، أعيا ببلاغته وحسن نظمه جميع البلغاء، وحير بحسن أسلوبه وما كشفه من غيوبه أفئدة العقلاء، وأصلح بهدايته العقائد والأخلاق والأعمال، وهدى للتي هي أقوم وأصلح وأنفع، في كل الأحوال، كتاب حفظه الله من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حميد رحيم رحمان، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه فقد هدي إلى صراط مستقيم. اللهم اجعل القرآن العظيم لقلوبنا ضياء، ولأسقامنا دواء، ولذنوبنا ممحصا، وعن النار مخلصا، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين.

خطبة ابن سعدي في الحث على مؤونة الأقارب وغيرهم

خطبة في الحث على مؤونة الأقارب وغيرهم


الحمد لله الذي كرم بني آدم، وفضلهم على كثير من المخلوقات، ويسر لهم من ألطاف بره وأسباب كرمه ما به ينتفعون ويرتفعون درجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كامل الأسماء والصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من جميع البريات، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه الذين فضلوا الأمة بالعلوم النافعة والأعمال الصالحات.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أجل القربات وأفضل الطاعات القيام بمؤنة البنين والبنات، والإخوان والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وجميع القرابات، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فم امرأتك»، و «من عال جاريتين حتى يغنيهما الله كانتا له حجابا من النار» «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر» «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا، «خير بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت فيه يتيم يساء إليه» فما أعظم توفيق من قام بكفالة أحد من أقاربه العاجزين، وما أولاه بالأجر والثواب والخلف من رب العالمين، فإنه في عبادة وثواب متزايد، كلما أطعمهم وكساهم، وهو في جهاد كلما سعى في الكسب لهم وضمهم إليه وآواهم، وقد يفتح الله له بسببهم طرقا من الخير وأبوابا، وينزل له البركة ويعطيه خلفا عاجلا وأجرا وثوابا، فإنما ينصر الناس ويرزقون بعاجزيهم وضعفائهم، وإنما ترحمون برحمتهم إياهم وكثرة سؤالهم ودعائهم، أما تحبون أن يحسن الله إليكم إذا أحسنتم إليهم؟ أما ترغبون أن يكرمكم مولاكم إذا آويتموهم وتفضلتم عليهم؟ أما تغتنمون أدعيتهم لكم في كل الأحوال؟ أما علمتم أن من فرج عنهم كربة فرج الله عنه يوم القيامة الشدائد والأهوال؟ ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن شرح صدر قريبه المحتاج يسر الله أمره، وغفر له يوم فقره وفاقته. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في مفاتيح الخير والشر

خطبة في مفاتيح الخير والشر


الحمد لله الفتاح العليم، الملك العظيم، الرب الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، البر الرحيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بفعل الخير وترك العصيان، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الخير والشر خزائن ولهذه الخزائن مفاتيح، فطوبى لمن كان مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وويل لمن كان مغلاقا للخير مفتاحا للشر» بهذا الذي ذكر المصطفى توزن الرجال، وبه يعرف أهل النقص من أهل الكمال، فكونوا رحمكم الله مفاتيح للخيرات، مغاليق للشرور والآفات، فمن كان منكم مخلصا لله ناصحا لعباد الله، ساعيا في الخير بحسب إمكانه فذاك مفتاح للخير حائز للسعادة، ومن كان بخلاف ذلك فهو مغلاق للخير، وقد تحققت له الشقاوة، من الناس من إذا اجتمع بهم في مجالسهم حرص على إشغالهم فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ومنهم من يشغلهم بما يضر وما لا يغني، فهذا قد حرمهم الخير وأشقاهم، ومنهم من يسعى في تقريب القلوب وجمع الكلمة والائتلاف، ومنهم من يسعى في إثارة الفتن والشقاق والتنافر والخلاف، ومنهم من يجتهد في قلع ما في قلوبهم من البغضاء، ومنهم من يلهب في قلوبهم الشحناء، ومنهم من يحث على الجود والكرم والسماحة، ومنهم من يدعو إلى البخل والشح والوقاحة، ومنهم من يتنوع في فعل المعروف في بدنه وقوله وماله، ومنهم من لا يعرف المعروف ولو قل، فلا تسأل عن سوء حاله، ومنهم من مجالسه مشغولة بالغيبة والنميمة والوقيعة في الناس، ومنهم من ينزه نفسه عن ذلك وينزه الجلاس، ومنهم من تذكر رؤيته بالله، ويعين العباد في مقاله وحاله على طاعة الله، ويأمرهم بالقيام بالحقوق الواجبة والمسنونة، ومنهم المثبط عن الخير وأحواله غير مأمونة، فتبارك الذي فاوت بين العباد هذا التفاوت العظيم، فهذا كريم على الله وعلى خلقه، وهذا لئيم، وهذا مبارك على من اتصل به، وهذا داع إلى كل خلق ذميم، وهذا مفتاح للبر والتقوى وطرق الخيرات، وهذا مغلاق لها ومفتاح للشرور والآفات، وهذا مأمون على النفوس والأعراض والأموال، وهذا خائن لا يوثق به في حال من الأحوال وهذا قد سلم المسلمون من لسانه ويده وهذا لم يسلم منه أحد وربما سرت أذيته على أهله وولده أجارني الله وإياكم من منكرات الأعمال والأخلاق والأهواء، وعافانا من كل شر قاصر ومتعد ومن البلوى، ورزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي في حسن الخلق

خطبة في حسن الخلق


الحمد لله الرؤوف الرحيم، البر الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العظيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى صراط مستقيم، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في كل أمر قويم.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بالقيام بحقوقه وحقوق العباد، وبكمال المتابعة للرسول وقوة الإخلاص للرب الجواد، قال صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»، فعاشروا رحمكم الله الخلق بالخلق الجميل، وبالتواضع لهم في كل كثير وقليل، واعقدوا قلوبكم عقدا جازما على محبة جميع المسلمين والتقرب بذلك إلى رب العالمين، واجتهدوا في تحقيقها ودفع ما ينافيها، واعملوا على كل ما يحققها ويكملها وينميها، واتخذوا المؤمنين إخوانا، وعلى الخير مساعدين وأعوانا، ومتى رأيتم قلوبكم منطوية على خلاف ذلك فبادروا إلى زواله، وسلوا ربكم أن لا يجعل فيها غلا للذين آمنوا تحظوا بنواله، وميزوا في هذه المحبة من لهم في الإسلام مقام جليل، كعلمائهم وولاتهم العادلين وعبادهم، فتمام محبة الله محبة أوليائه، بحسب مقاماتهم وعملهم واجتهادهم، ووطنوا نفوسكم على ما ينالكم من الناس من الأذى، وقابلوه بالإحسان، وتقربوا بذلك إلى الله راجين فضل الكريم المنان، فمن كمال حسن الخلق أن تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحسن الخلق لمن أبغضك وهجرك، فإن الجزاء من جنس العمل، فمن عفي عن عباد الله عفى الله عنه، ومن سامحهم سامحه الله، ومن أغضى معائبهم ومساويهم ستر الله عليه، فاجعل كبير المسلمين بمنزلة أبيك وصغيرهم بمنزلة ابنك ونظيرهم محل أخيك، وتكلم مع كل أحد منهم بما يناسب الحال؛ فمع العلماء بالتعلم، وبالتعليم مع الجهال، ومع الصغار باللطف، ومع الفقراء بالرحمة والعطف، ومع النضراء بالآداب والظرف. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة ابن سعدي فيها آداب الشرع في السلام والتحية وغيرها

خطبة فيها آداب الشرع في السلام والتحية وغيرها


الحمد لله الذي جعل الأدب الشرعي عنوان التوفيق، وهدى من شاء من خلقه لأقوم طريق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مبنية على الإخلاص والمحبة والتحقيق، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أخرج الله به المؤمنين من الكربات والظلمات والضيق، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والسوابق والتوفيق.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الآداب الشرعية أفضل الآداب، فاسلكوا سبلها لتحظوا من ربكم بجزيل الثواب، ألا وإن أصل الأدب مراقبة الله في السر والعلانية، والقيام بحقوقه وحقوق خلقه بنية وهمة عالية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه» «إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام» «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه» «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا دلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» واعلموا أن السلام الشرعي بالمشافهة والمكاتبة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فاستبدل به الجهال الذين لا يعرفون قدر الآداب الشرعية ألفاظا استحسنوها وهي غير مرضية، فأين هذه الألفاظ التي لا فائدة فيها أصلا من تحية المسلمين التي تجمع أكمل الدعاء وأنفع الخير والثناء، وليسلم الراكب على الماشي، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، والماشي على الجالس، وإذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل سامعه: يرحمك الله، فإذا قال ذلك فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم، فإن حمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا خير في الجلوس في الطرقات» أي التي لا بيع فيها ولا شراء إلا لمن هدى السبيل، ورد التحية، وغض البصر، وأعان على الحمولة، ولم يؤذ الناس ولم يتتبع عوراتهم ويشتغل بالتفتيش عن أحوالهم، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته وفضحه بين العباد وأظهر للناس عيوبه التي كان يخفيها، ومن تغافل عن عيوب الناس وأمسك لسانه عن تتبع أحوالهم التي لا يحبون إظهارها سلم دينه وعرضه، وألقى الله محبته في قلوب العباد وستر الله عورته، فإن الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.